بقلم محمد الناصر النفزاوي

فكرة التقدم في بلاد المغرب عند المراكشيين علال الفاسي والجزائري فرحات عباس والتونسي الحبيب بورقيبة

(تحميل الملف PDF )                      

 ليس في الامكان أن نتناول مسألة  تطور التفكير السياسي في المغرب الأقصى من دون التعرض لمفكرين سياسيين في هذا البلد هما علال الفاسي  ومحمد بن الحسن الوزاني وهما معا من المؤلفين المكثرين انتاجا فكريا سياسيا اضافة الى أنهما صاحبا تيارين ما زالا مؤثرين في هذا البلد وان  بشكل متفاوت . وسنبدأ في تناول تفكير علال الفاسي من خلال مؤلفين أساسيين هما " الحركات الاستقلالية في المغرب العربي العربي" (1948) والنقد الذاتي " ( 1952) اللذين يعدان أكثر من 1000 صفحة كلفانا كثيرا من الوقت لقراءتهما قراءة متمعنة وذلك على الرغم من امكان الاحاطة بنواة  تفكيره في صفحات قليلة .

ما هي اذن نواة تفكير علال الفاسي  ؟

فكرة الاصلاح عند علال الفاسي يمكن  اجمالها في قوله ب" فلسفة الانحطاط " التي تحدثنا عنها في مقدمة هذا الكتاب وذلك بشرط واحد هو تغيير المصطلحات حتى تلائم التفكير السياسي في المجال الشمال أفريقي وذلك ممكن اذا غيرنا  تسمية "فلسفة الانحطاط " ب" كلمة السلفية " . ولتقرؤوا معي هذه الفقرة الطويلة من مقدمة كتابه " الحركات الاستقلالية ".

" بعض المسائل كالسلفية مثلا واتجاهاتها  السياسية كان يمكن أن يكتب في أثناء تاريخ كل حركة( استقلالية ) من تاريخ الأقطار الثلاثة (يقصد تونس  والجزائر والمغرب الأقصى ) لأنها جميعا شاهدت في أوائل عهدها بالنهوض هذه الدعوة السلفية النبيلة ولكن ما كتبته في كل قسم سيصبح تكرارا لا فائدة له و

ما أن ازدهار هذه الدعوة في مراكش كان موازيا تماما للتطور الذي طرأ على السلفية فيما بعد الحرب  الكبرى فقد كان مرجحا للحديث عنها في القسم المراكشي " (ص - و- من مقدمة الحركات ..)

في هذه الفقرة الطويلة  يصف علال الفاسي السلفية بأنها "دعوة نبيلة " لأن غايتها " التطوير " و "النهوض " المرادفان لمصطلحات أخرى مثل "النهضة" و "البعث" ومثل هذه الغاية لا يختلف فيها اثنان من المفكرين السياسيين لا في بلاد المغرب وحدها ولكن في كل بلاد الأرض المتخلفة حضاريا ومن هنا  يطرح الوجه  الثاني من المسألة وهو ما السبيل الى تحقيق هذه الغاية ؟

ان الغاية المجمع عليها لا تفيدنا في شيء في ما يتعلق بموضوعنا  وعلى العكس من ذلك فان تناول سبل تحقيق هذه الغاية هو الغرض الأول من الكتابة في هذا الموضوع .

في الألف صفحة التي كتبها علال الفاسي في " الحركات الاستقلالية " و " النقد الذاتي " يظهر في وضوح لا مزيد عليه رفضه الحركات السياسية في بلاد المغرب التي قامت على فكرة التدرج في المطالبة بالحقوق السياسية  لايمانه بوجوب المطالبة أولا بالاستقلال " التام الكامل " وكأنه يتبنى الموقف الخطابي من الاستعمارين  الفرنسي والاسباني من دون أن يصرح بذلك وهذا تناقض اذا تذكرنا مواقف مختلف الأحزاب السياسية في شمال أفريقيا التي رفضت فعلا التفكير السياسي الخطابي الذي يقول بعدم امكان هزيمة الاستعمار في غياب تمرد شمال أفريقي شامل لن يكون في امكان  فرنسا  أن تواجهه موضوعيا وذاتيا.

وما كتبه عن  الجزائري فرحات عباس وعن التونسي الحبيب بورقيبة  يؤكد ما  أقول فقد كتب عن فرحات عباس ما يلي :

" عباس فرحات هو في الحقيقة شخصية  ممتازة بثقافتها وذكائها ولكنه في الوقت نفسه كان من أنصار الاكتفاء بالمطالبة بالمساواة مع الفرنسيين في الحقوق وقد سبق لي أن اجتمعت به في باريس سنة 1933 وناقشته في فكرته والذي فهمته من حديثه أن المطالبة بالحقوق الفرنسية ليست الا مرحلة يجب أن تجتازها الجزائر واستقلال الأمة الجزائرية يجب أن يكون الغاية البعيدة التي نعمل لها "(الحركات الاستقلالية ، ص 20 ) .

أما عن سياسة المراحل التي يقول بها بورقيبة فقد كتب عنها ما يلي :

" والحقيقة أن هذه السياسة  التي تعرف بسياسة المراحل خدعت كثيرا من الوطنيين لا في تونس وحدها بل حتى في المغرب الأقصى وقد اعتبرناها جميعا - والحق يقال - وسيلة للوصول لأهدافنا العليا لكن التجربة أثبتت لنا كما أثبتت لاخواننا التونسيين خطأها "(ص 81) وأضاف :

" لا نريد (...) هاهنا الانتقاد على اخواننا شيئا  وقعنا فيه نحن أيضا وانما نذكر بها للاتعاظ  بالماضي ولاظهار خطا الذين يريدون اليوم استئناف سياسة المراحل أو المطالبة بالتدريج في الاستقلال " (الصفحة نفسها )

 

لقد تأكدت وأنا أقرأ " الحركات الاستقلالية " من " عدة شبهات " تتصل بتفكير علال الفاسي سنة 1948 :

أولها الجهل  بتاريخ نشأة فكرة سياسة المراحل اذ سبق أن نادى بها الكولوغلي الجزائري حمدان خوجة صاحب كتاب " المرآة " منذ  1833 .

ثانيها عدم اطلاعه على " ادريس .رواية شمال أفريقية " التي نشرت في القاهرة سنة 1948 ولكن في الفرنسية والتي طرحت التساؤل التالي كيف نتخلص من الاستعمار هل يكون ذلك ب" السيف " أم بالوعي ؟ ولقد كتبها علي الحمامي بعد فشل حركة التحرير في الريف والتجائه الى القاهرة اقتداءا بعبد الكريم الخطابي ونتيجة لما شاهده من عزوف رؤساء رؤساء أحزاب شمال أفريقيا عن الأخذ بتفكير الخطابي .

ثالثها جهل علال الفاسي بما كتب حمدان خوجة أداه الى حصر دعوته في المجال السياسي مغفلا اغفالا تاما الجانب الأهم وهو الجانب الاقتصادي وكأن غزو بلاد المغرب كان لسبب ديني أو اشباعا لنوع من " النزوات الطارئة " في حين أن حمدان خوجة تحدث عن هذه المسألة في لغة عميقة المعاني اذ كتب في بلاغة ووضوح لا مزيد عليهما :

" أنا  شخصيا لا أرى أن العنصر الديني هو الذي دفع بالفرنسيس الى احتلال احتلال الجزائر " ( المرآة ، ص 71)

وكتب :

" أكرر مرة أخرى بأن شراهة  الفرنسيين للغنى لم تكن في الجزائر الا لمساعدتي على سياق بعض العبارات المثلية فقد شبهت السكان الأوربيين ( قي مدينة الجزائر ) وقد شبهت  المدينة بحوض صغير مملوء بماء مالح وكلما ازداد الجبار منه شربا ازداد عطشا ثم  يجف الحوض والعطش باق لم يفارق صاحبه " ( ص 74)

عمر هذه الفقرات  115 سنة فتصوروا لو كان علال  الفاسي قرأها سنة 1948 وتمعن في معانيها هل كان يمكن أن يكتب أثرين كبيرين في موضوع الاصلاح مغفلا التعرض للأسباب الحقيقية العميقة التي تقف وراء تخلف مجتمعه ؟ أنا أشك في ذلك لسبب واحد بسيط هو أن  حمدان خوجة من الآخذين بفكرة التقدم في حين أن علال الفاسي يقول بالسلفية أي بفلسفة الانحطاط بالتسمية الغربية .

ثم أنه يوجد سبب آخر يتصل  بأسلوب الكتابات الهادفة الى تغذية النشاط الدعوي وهو أسلوب يعتمد على ثنائية خطيرة في نظري اذ يقوم على المدح المبالغ فيه والذم المبالغ فيه خدمة لهذا النشاط  . فمن يقرأ ما كتب علال الفاسي عن فرنسا وعلاقتها ببلاد المغرب يظهرها شيطانا مكتمل  الأوصاف في حين أنه وجد في فرنسا نفسها من شجب سياستها في الشمال الافريقي رغم  أن مواقفه لم تكن مؤثرة بشكل كاف وهذا هو بالذات ما تلافاه حمدان خوجة منذ 1833 في " المرآة " بسبب أخذه بفكرة " التقدم " وغرق فيه  علال الفاسي بسبب أخذه بفكرة " السلفية "  . ولسوف يبين التطور الحاصل  اليوم في المغرب الأقصى أن  تفكير حمدان خوجة كان أكثر نفاذا وعمقا بدليل انحسار تأثير علال الفاسي في هذا البلد وتنامي الأخذ بفكرة " التقدم " فيه بفضل الحركات الاجتماعية في كل أجزاء المغرب المغرب الأقصى .

 

 الفصل الثاني :   فكرة التقدم عند الحسن الوزاني

 

أتناول اليوم بعد أن نشرت ما يتعلق بفكرة التقدم في تفكير علال الفاسي (1910-1974) تفكير مواطنه محمد الحسن الوزاني  (1910-1978) .

ان أولى الملاحظات التي أبدأ بها هي التالية :

  • لغة الوزاني صافية
  • هو كثير الكتابات تماما مثل علال الفاسي ولكنه يخطط  باحكام لما يكتب مما يخفف على القاريء ان كان صبورا عبء قراءة كتاباته التي لا شطوط فيها .
  • تكاد منشورات المؤسسة التي تحمل اسمه في المغرب الأقصى أن تخلو من كل ما يتعلق  بفترة" المخاض والنشوء " وتركز على العكس من ذلك على مؤلفه المتعلق بثورة الريف . ونحن لا نشتكي من هذا الأمر اذ أننا  نهتم أساسا بفترة ثلاثينات القرن العشرين سواء في فرنسا أو كل بلدان أفريقيا الشمالية لسبب بسيط هو أن هذه العشرية التي سبقت الحرب العالمية والتي يطلق عليها الفرنسيون عبارة " السنوات المجنونة " Les années folles شهدت ردة فعل على الحرب وما رافقها من ظروف قاسية قبولا متزايدا لفكرة " التقدم " وانحسارا  لفكرة  " الانحطاط " التي تتغنى بالخصوصيات " القومية "  ويمكن في السياق أن نستشهد بالفكرتين السلفيتين  السلفية الاسلامية والسلفية الصهيونية اذ هما لا يترعران الا في ظروف التأزم الحضاري .
  • أما في الوسط الثقافي الشمال الأفريقي  فكانت فكرة " التقدم " هي الغالبة عند الوزاني مثلما كانت  فلسفة " الانحطاط " هي الغالبة في تفكير علال الفاسي فما هو تفكير أهم  أعضاء هيئة تحرير مجلة " المغرب " التي لم يكف الوزاني عن الاشادة بهم  ؟
  • أقول هذا  لأن الانسان "المناضل" فكريا سياسيا لا يمكن أن يكتب شيئا في مجلة فكرية سياسية الا اذا كان مؤمنا على الأقل بجزء مما تؤمن به وتدعو اليه في فترة من فترات من حياته  ومن ثم فأنا أعتبر ما كتب الوزاني في هذه المجلة اذاك هو نواة تفكيره .

 

            رأيي هذا فرض علي أن أقسم الحديث عن الوزاني الى ما يلي :

  • تفكير هيئة تحرير مجلة " المغرب " سياسيا واجتماعيا واقتصاديا من خلال ما كتب  الوزاني ومراجع أخرى .
  • تفكير الوزاني والآخذين بتفكيره من المغاربة .
  • الوزاني " الراديكالي " والاسلام .
  • أسباب خصومة / الوزاني - علال الفاسي الحقيقية .

أ. تفكير هيئة تحرير "المغرب " .

 

 رئيس تحرير " المغرب " هو واحد من أحفاد كارل ماركس أقصد (Jean Longuet (1876-1938 الذي شارك  في تأسيس  "الانسانية "humanité L  سنة 1904 وكتب " الوعي والعمل "La conscience et l'action  والذي  يمكن أن نتساءل في  شأنه  " ان كان مثقفا مناضلا أم  مناضلا مثقفا " ذلك أنه  كان " يرفض أن يكون للمثقفين دور قيادي في الحركة الاشتراكية  " (www.percée.fr.doc ) . هذا  المناضل  الاجتماعي السياسي كاد أن يغفل  المؤرخون للحركات الاستقلالية في كل بلاد المغرب اسمه عند  الحديث عن الوزاني أو  بورقيبة الخ  والحال هي أن الجرائد التي تأسست سواء في المغرب الأقصى أو في تونس  في ثلاثينات هذا القرن مثل "action tunisienne   L"  في تونس (1932 ) و"عمل الشعب " ( 1933 ) في المغرب الأقصى لم تكن  أكثر من تأثر لخط هذا الحفيد الشهير  الذي كان تفكيره  لأنه  لأنه اشتراكي يركز على  "العمل" .

لقد كان لونقي حريصا في كتاباته على التمييز بين فرنسا في الوطن الأم التي تخضع لمساءلة الأحزاب السياسية وفرنسا المستعمرات التي تطلق أيادي المقيمين العامين فيتصرفون تصرف المستبدين يعلون من شأن هذا ويمتحنون من  يعترض على  سياستهم  في التمييز بين مواطني المستعمرات  أي أنه بعبارة أخرى كان يرى أن سياسة فرنسا في  فرنسا كانت عموما تقول بفكرة التقدم  بمختلف  تعبيراتها أما سياسة فرنسا  ومواطنيها  في المستعمرات فهي أقرب  الى فكرة  " الانحطاط " منها الى فكرة "التقدم " اذ  تقوم على  تبرير وضع تفوق العنصر الغربي في المستعمرات بتفوق حضاري بقي وسيبقى محل جدال.

هذا في ما يتعلق برئيس تحرير " المغرب " سياسيا ولكن مجلة " المغرب " كانت تضم  كذلك في هيئة تحريرها اقتصاديين  من عيار فرانسوا  ألبير (1879-1971) صاحب كتابات تتعلق بالتفكير التعاضدي  وآخرين  لا يقلون عنه اشعاعا فكريا .

هؤلاء جميعا لم يكونوا شيوعيين  بل كانوا راديكاليين  وهذا الأمر بالذات هو ما حدا الوزاني الى الاقتراب منهم ومن ـظرتهم الى الأشياء  فأخذ منهم  خاصة فكرة  " الكتلة " التي  سيكون من دعاتها لاحقا .

 

ب. تفكير تفكير  الوزاني السياسي الاجتماعي.

من يقرأ ما كتب الوزاني في الخطاب الذي ألقاه في سلا في المغرب سنة 1933  احتفالا بمرور سنة على تأسيس " المغرب "الفرنسية  لايمكنه أن لا يلاحظ  اعجابه بمؤسسها  وبهيئة تحريرها الراديكالية . والانسان لا يمكن أن يعدد خصال قوم الا اذا كانوا ينتمون الى فكر يأخذ به  هو ان قليلا أو كثيرا والوزاني اتخذ من مؤسس " المغرب " مثالا يحتذى فهو يشبهه في هذا النهم المعرفي المقرون  بعزوف عن الظهور في كل المناسبات وتفضيل النشاط القاعدي  على النشاط " الفوقي " بغية "  توسيع الشعبية "  ولقد استغربت شخصيا من عدد من الكتابات التي تفسر خصومة الوزاني / الفاسي بصراع حول الزعامة لاعتقادي أن الوزاني " رجل ادارة " يتخذ من  لونقي مثالا  يحتذى حين أن الفاسي " رجل زعامة " نجد له  أشباها عند كل السياسيين غربا ومغربا .

كما أن الوزاني أخذ عن مؤسس " المغرب " هذه النزعة الى التجميع عوض التقسيم  نتيجة تحفظه ازاء فكرة " حرب الطبقات "  فمؤسس " المغرب " كان بسبب أخذه بفكرة " التقدم " لا يطلب  من الآخذين بآرائه أكثر من القول بها بغض النظر  اختلاف  أعراقهم  وأديانهم بالرغم من أنه راديكالي فرنسي اذ أن  ما يدخل ضمن التجارب الفرنسية في الحكم لا يمكن أن يكون مثالا يحتذي في غيرها من البلدان التي تختلف عنها تاريخا وتطورا مما يفتح الباب واسعا  أمام  الوزاني  الذي يقول بفكرة " تميز التجربة الاسلامية " في الحكم عن غيرها من التجارب العالمية وهذا القول لا يمنعه من القول بفكرة " التقدم " التي تجمعه  ب " نخبة من الفرنسيين الوجهاء في  ميدان  السياسة  الغيورين على مصلحة أمتهم الحقة  وسمة بلادهم الطيبة تلك المصلحة وهذه السمة اللتان لا تثبتان الا مع نصرة  الحق في الحدود  الطبيعية للتعهدات والضمانات وفي دائرة كرامة الانسان أيا كان جنسه ولغته وعقيدته وكانت نتيجة  للتآزر الذي ظفر  به هؤلاء الفرنسيون الأحرار عند المغاربة الذين قدروا المشروع (مشروع مجلة " المغرب " ) حق قدره " ( الوزاني ،خطاب سلا بعنوان "مجلة المغرب "  أو  حقيقة الوطنية المغربية " /  أرشيف المجلات الأدبية والثقافية العربية ، مجلةarchive.sakrit.com.99 ) فمطلب المجلة ليس أكثر من تطبيق " التعهدات والضمانات " التي أمضت عليها فرنسا عند احتلال المغرب الأقصى

ثم لم يطبقها المقيمون العامون في ما بعد وهذا أمر اشتكى منه لا المغاربة فقط ولكن التونسيون كذلك. فاقبال الساسة في بلاد المغرب على ترويج كتابات اليسار عموما آنذاك سببه أنه كان يطلب من فرنسا أن تطابق بين قولها حول حقوق الانسان في بلدها وممارستها في المستعمرات فلا حديث في هذه الفترة عن استقلال أو حتى حكم ذاتي في كل البلدان المغربية اذ انحصر التفكير السياسي في مفهوم " الاصلاح " الذي عرفه  محمد الحسن الوزاني كما يلي :

(مطالبنا) كانت ترمي الى اصلاح شؤون الأمة المغربية اصلاحا يفي  بحاجاتها وتخطو بها  خطوات سريعة في نهج التطور والتقدم واذا قلنا الاصلاح فلسنا نعني ما هو من قبيل ذر الرماد في العيون أو ما ينال القشور وسطوح الأشياء المحتاجة  الى الترميم بل نقصد الاصلاح في الشكل والأصل معا لأن ما ننعته بالفساد فاسد شكلا وأصلا كما أننا لا نرغب في الاصلاح الأبتر ولا في الآصلاح الذي يؤدي الى احداث  ما لا يجب احداثه او الى ايجاد ما يصبح مناقضا لما هو كائن .وجوبا  لا يكون الاصلاح  اصلاحا

    الا   اذا رضيت به الأمة وتيقنت أن فيه ضمان  مصالحها وارضاء حاجاتها ولن ترضى الأمة وتطمئن الا اذا جاء الاصلاح محققا لرغبة من رغباتها وكان لثقافتها أكبر نصيب في الاشراف على تنفيذه بصفة تجعله يعود على الجميع بالخير العميم "( الوزاني خطاب سلا ص 10 ) .

مفهوم الاصلاح مفهوم فضفاض يمكن أن يدخل في عباءته الشيء وضده  ولهذا حرص الوزاني على تحديد معنى الاصلاح الذي يقول به انطلاقا من ايمانه بفكرة " التقدم " التي تعارض  " الانحطاط " ( أي السلفية في بلداننا ) فاشترط تماما مثلما كان يقول به

مؤسس " المغرب "  أن  يكون للقاعدة ممثلة في مناضليها المقفين " أكبر نصيب في الاشراف على تنفيذه بصفة تجعله يعود على الجميع بالخير العميم " .

 

فكرة " التقدم "  واضحة, اذن , في ما كتب الوزاني وان كان خطابه في سلا لايسمح  لقصره بأن نتوسع في هذه المسألة ولهذا أكرر أن  الخصومة بين الوزاني وعلال الفاسي يجب أن تفسر انطلاقا  من  تعارض فكرة التقدم وفكرة " الانحطاط " بما يساعد على تجاوز هذه الخصومات  السياسية  السائدة  اليوم في المغرب الأقصى  بين تيارات  سياسية أكثر منها فكرية - سياسية لن يحسم بينها  غير تنامي  الحركات المطلبية الآخذة  بفكرة  "التقدم" التي  تقوم على الأمل رغم كل ما يعترض طريقها  اليوم من صعوبات .

فكرة التقدم في بلدان أفريقيا الشمالية في النصف الثاني من القرن العشرين.

 

 

 

 

فكرة التقدم عند الجزائري فرحات عباس ( 1899- 1985 ) أو مفكرو بلدان شمال أفريقيا بين " الارادوية " و" التخاذلية "  

 

الفصل الأول :  " فكرة  التقدم " عند الجزائري فرحات عباس .

 

 

تناولنا في مقالة سابقة فكرة التقدم عند المغربين الأقصويين علال الفاسي ومحمد الحسن الوزاني وعلينا الآن أن أن نتناول  فكرة " التقدم " وعلاقتها ب "الاصلاح " عند مجايليهما في الجزائر وتونس ممثلين في كل من فرحات عباس والحبيب بورقيبة من خلال ما كتبا .

 

علي قبل كل شيء أن أتعرض لمسألة أساسية يكون كل بحث لا يوليها أهمية أدخل  في "المزايدة الايديولوجية " منه الى  البحث الرصين  . لقد سبق عندما  قارنا بين تفكير علال الفاسي السياسي وتفكير الوزاني السياسي أن أوردنا رأي السلفي علال في احجام كل من الوزاني وبورقيبة عن مطالبة فرنسا  بالاستقلال في... ثلاثينات القرن العشرين  في حين كان هو "جذريا " في هذه المسألة  بالذات ولقد  أشرنا الى أنه كان يأخذ ب" السلفية   " المرادفة ل "فلسفة الانحطاط " في تصنيفنا الذي اعتمدنا  عليه في هذا الكتاب .

ومن صفات " السلفية " أنها لا تتقيد بظروف المد والجزر في الحضارات اذ يكفيها أن تطلب من القائلين بها  أن يعتمدوا في تفكيرهم وسلوكهم  مثلا أعلى سابقا هو مثال  النبي محمد. القدوة  والنموذج موجودان اذن  بل محددان فهي تعتمد في تفكرها قياس الحاضر على الغائب أي الماضي .

هذا التفكير يقود منطقيا ، بما أن هذه الفلسفة  مخصوصة بقوم معين ، الى التعميم والى اعتبار الفرنسيين سواء ولا يتمكن بذلك من التمييز بين فرنسيي فرنسا  وفرنسيي شمال أفريقيا في حين  أنه وجد في مختلف بلدان شمال أفريقيا مثقفون سياسيون فرنسيون  قاوموا أبناء جلدتهم من المعمرين ويمكن أن نذكر هنا أشهرهم لأنه كان واليا على  الجزائر أقصد موريس فيوليت (Maurice Violette ) الذي كان شوكة حقيقية في حلق  معمري الجزائر سواء أكانوا من الملاك الكبار أو رجال  الدين لأنه سياسي "راديكالي" وقليلا  ما يدافع الراديكاليون الفرنسيون  عن سياسة  فرنسية لا تحقق قدرا من العدالة في المستعمرات ذلك أن

" الراديكالية وان لم تعبر عن  وحدة نظريات بقدر ما كانت حالة عقلية  تجمع  بين يقولون بسياسة اصلاحات في امكانها  أن تحقق بشكل كامل اللائيكية والحرية والمساواة (www.larousse.fr/encyclopédie/ divers/radicalisme/ 85204)

 

مثال آخر عن هذا الشق من الفرنسيين هو  فكتور  سبيلمان ( 1866-1938) صديق فرحات عباس وناشر كتابه  " الشاب الجزائري ( 1931)الذي كان من  أصدقاء فرحات عباس الذي كتب فيه :

" هذا الشجاع  ألزاسي والذي أذكره بحماس الذاكرة اتخذ موقفا معاديا لفرنسا بسبب مصادرتها لأراضي الجزائريين فكان من أشد المؤيدين لقضيتنا " ' ( محمد الصادق مقراني  "فيكتور سبيلمان فرنسي أحب الجزائر وعاشر بن باديس وفرحات عباس / alhiwardz.com/ contribution/ 100737 )

أما عبد الحميد بن باديس (  1889-  1940) فقد وصفه عند موته في مقالة في " الشهاب "  ب" الملك الحارس للشعب الجزائري ( المقالة سالفة الذكر)

من ذكرنا من الفرنسيين ومن لم نذكر كانوا وطنيين فرنسيين مخلصين لبلدهم في الشق الراديكالي منه الذي يؤمن بفرنسا قوية قادرة على التصدي لمن يهددها وخاصة المانيا الجارة الشرسة  آنذاك ولذلك كانوا يطالبون باصلاح بلادهم بما فيها مستعمراتها  في تونس والجزائر والمغرب وهذا  هو ما يفسر رواج أفكارهم عند كل السياسيين الشبان في مختلف بلدان المغرب سواء أتسموا بالوزاني أو فرحات عباس أو بورقيبة لأن كل هؤلاء الشبان يتفقون في الأخذ بفكرة " التقدم " ويعادون " السلفية " ومن ثم ستكون ميولهم فرنسية -راديكالية .

واذا كان قد لقي علال الفاسي ب" سلفيته " وعبد العزيز الثعالبي(1876-1944)   ب"تونسه الشهيدة "   رواجا كبيرا في بلديهما  وحتى في الجزائر فذلك راجع الى أنهم  كانوا يقولون جميعا ب" بفكرة  الانحطاط " بالمعنى الذي سبق أن وضحناه وما هجرتهم الى كل البلدان التي تدخل ضمن الفضاء العربي- الاسلامي والتي رحبت بهم الا دليل على ما أقول  . فالخصومات التي وقعت بين  المفكرين السياسيين في كل بلدان المغرب لا يجب أن ترد الى  خصومات  حول" الزعامة " بقدر ما يجب أن ترد الى اختلاف في النظرة الى الأشياء  في كل ما يتعلق بالحياة في معناها الشامل .

تفيسر هذه الخصومات  بغير ما ذهبت  اليه  تسبب عند غيري من أغلب الكتاب  في  الحاق ضرر كبير بكتابات المهتمين بالتفكير السياسي الاجتماعي في بلاد المغرب  خاصة أنهم أثروا في  عامة  المتعلمين وهم ذخيرتهم الاجتماعية السياسية لأنهم لم يتعمقوا في دراسة فترة ثلاثينات القرن العشرين دراسة موضوعية فاقتصرت كتاباتهم في الغالب  على التشهير بسياسة المعمرين وهي سياسة طبيعية لأن هؤلاء لم يكونوا مفكرين بل كانوا يقتصرون على  استغلال "  لابسي البرنوس " استغلالا فاحشا شأنهم في ذلك شأن كل من يملك السيف والمال في كل بلاد العالم من دون استثناء وفي كل العصور ولم يولوا  تفكير  الراديكالي الاقتصادي الفرنسي  شارل جيد   أهمية تذكر وهو الذي كتب  سنة    1913"  اذا لم تتحقق  المصالحة   والتعاون  بين المستوطنين والأهالي  فان المستوطنين  الفرنسيين  سيلقى  بهم  عاجلا أو آجلا في البحر"  ( الشاب الجزائري  ص  30)  أو تفكير أبيل فيري حفيد جول فيري الذي كتب متحدثا للمعمرين "  خلال خمس وعشرين سنة ستكون لكم في الجزائر بروليتاريا عمالية . وقد بين التاريخ أنه عندما تستقي المشاكل الاجتماعية قوتها من المضاعفات الدينية  والمشاعر الوطنية فانها تكتسي حينئذ  قوة انفجارية " ( الشاب الجزائري  ص 31 )

أما  موريس فيوليت فقد كتب  في الخط نفسه شاجبا قصر نظر معمري الجزائر " انكم عندما يحتج هؤلاء المسلمون تغتاظون وعندما يؤيدون تشتبهون في أمرهم  وعندما يصمتون تشتكون . أيها السادة ان هؤلاء الرجال   ليس لهم وطن سياسي...وهم يطلبون منكم أن تقبلوهم في وطنكم فان رفضتم أفلا  تخشون أن ينشئوا لهم واحدا  ؟ " ( الشاب الجزائري ، ص 31 ) .

ان أهم  عبارة في حديث موريس فيوليت في ما تتصل بحديثنا عن فرحات عباس هي عبارة  " ليس لهم  وطن  سياسي" ذلك أن الاختلاف الأساسي حول "  الدولة الوطنية  " بين  الفرنسيين والألمان  مرده  حسب  تعريف اليونسكو  للدولة القومية بأنها الدولة

التي سبق تأسيسها اقامة الأمة مثل فرنسا التي سبقت  فيها الدولة الأمة  والتي لم تكن فيها الثورة الفرنسية  مجرد  امتداد للدولة وان بتغيير في موازين القوى الاجتماعية السياسية الداخلية   وتغيير  ثانوي مثل تغيير العلم  والسكة  والشعارات مثل حرية عدالة مساواة أما  في  ألمانيا  فقد حدث العكس  اذ سبقت الأمة قيام الدولة القومية مما يفسر هذا النشاط الفكري السياسي المحموم في هذا البلد ممثلا في كبار المعبرين عنه  مثل هيجل وهردر الخ  " فعندما  تسبق الأمة قيام الدولة فان  السكان في امكانهم أن يعوا هويتهم القومية ويبدون ارادتهم في العيش المشترك بتأسيس دولة   ذات مؤسسات مؤسسات سياسية وادارية (وهذه هي حالة  ألمانيا وايطاليا في القرن التاسع عشر www.toupie.org/ dictionnaire/ Etat-nation  htm )

كل  ما أوردناه على لسان من ذكرناهم من الساسة الراديكاليين الفرنسيين أثبته فرحات عباس في " الشاب الجزائري " وكأنه  يود أن يثبت لقرائه أنه  لم يكن ولن يكون "ارادويا " بل كان واقعيا بمعني أنه لا يتخذ قرارا الا بعد أن يزنه عقليا وسياسيا ويعرضه على محك الواقع الجزائري والمغربي والعالمي حتى لا تتسرب اليه "الأهواء " الذاتية ولهذا اعتبرت  فرحات عباس أكثر سياسيي بلاد المغرب  وضوح رؤية  ونفاذ بصيرة   لأنه  كان يعرف حق المعرفة ما يميز تفكير الفرنسيين عن تفكير  الألمان في موضوع الدولة القومية  مما يفسر موقفه من " الأمة الجزائرية "  الذي استغله  كثير من  " المزايدين الوطنيين" لمحاربته فكريا -سياسيا بعد أن غيرت الحرب العالمية الثانية كل الموازين في العالم لا في شمال أفريقيا وحدها .  وهو  ان ساند راديكالييي فرنسا  فذلك لأنهم  يشاركونه في نظرته الى الأشياء التي  تقول"بالاصلاح الراديكالي" لا " بالثورة " اذ لم يكن الراديكاليون الفرنسيون شيوعيين يدعون الى اللجوء اللجوء الى" الانقلابات "ذلك أن  الانقلاب   اذا كان يمكنه أن يغير نظاما سياسيا  بنظام  مغاير   فليس في وسعه واقعيا أن يغير العقليات   المتجذرة   منذ عصور   طويلة والتي لا بد من وقت كاف لتفتيتها . وما نراه اليوم من  حديث عن " الدولة العميقة " في كل بلداننا المغربية ووقوفها في وجه عمليات  " التغيير " ليس  الا تعبيرا  عن واقع سابق تمثل في الصراع بين من تبنوا فكرة " التقدم " ومن قالوا بالسلفية التي تقول ب" الارادوية "وفرحات عباس كان من خصوم  " الارادويين " ولذلك نهج نهج " الراديكاليين " الفرنسسين في أخذهم  بمفهوم "التقدم " . وحتى هؤلاء لم يتحولوا الى " راديكاليين اشتراكيين " الا بعد تطور اليسار الفرنسي بتأثير ما حصل في العالم  من بروز  الثورة البلشفية ثم  دور الاتحاد السوفييتي قوة عالمية بفضل انتصاره على "الهتلرية " في الحرب .

 

لست  هنا بصدد تعداد محاسن سياسة راديكاليي فرنسا في الجزائر بقدر ما أنا  بصدد توضيح تفكير فرحات عباس الذي يقوم على

الحذر الشديد من كل " الثورات " التي عقبت الحرب العالمية الثانية من دون أن تتسلح بتفكير جدي في مآلها السياسي الاجتماعي الاقتصادي على الأمد البعيد فشابهت بذلك النار  التي تشتعل حتى  لتكاد أن تأكل كل شيء لتبدأ بالانطفاء شيئا فشيئا بعد ذلك.

 

لقد أصبح عدد من مثقفي الجزائر اليوم يتحدثون عن " واقعية " فرحات عباس في ردة فعل منهم على " ارادوية "  ساسة جزائريين مثل  بن بلة وبومدين من الآخذين ب" الارادوية "  التي لم تغير شيئا كبيرا من وضع الناس في بلدهما اذ  سقطا في فخ لا طائل من ورائه وهو "التحديث الالزامي " فرأينا  بنبلة يتخذ من مصر الناصرية مثالا يحتذى في كل شيء تقريبا في حين أن  مصر تحتاج قبل كل شيء الى الواقعية  في تناول القضايا المصيرية في بلدها قبل بقية "العالم العربي " ورأينا بومدين الذي كان عسكريا لا مفكرا سياسيا يكون دولة جزائرية فصل فيها فصلا تاما بين التقدم  العلمي والتقني والتغيير الثقافي التقدمي الذي هو  أساس كل تقدم مما نتج عنه  اغراق بلده  " بالمدرسين " السلفيين " الذين كونوا أعدادا  كبيرة من الطلبة الآخذين برؤاهم فوقع في واقع الأمر تعويض ابن باديس الآخذ  بعدد من عناصر فكرة " التقدم "  بمالك بالنابي صاحب " الظاهرة القرآنية " و بالقرضاوي وهما  معا يندرجان  يندرجان رغم أن الأول مغربي والثاني  مصري ضمن السلفيين الارادويين الذين يقولون في معاداة منهم لفكرة التطور انه ليس في امكان المجتمع الاسلامي اليوم أن يكون أفضل مما كان عليه زمن النبي محمد وزمن ولادة " الظاهرة القرآنية " في القرن ...السابع الميلادي متخذين من  "الارادوية " وسيلة للتغيير :

يعرف  Larousse الارادوية على النحو التالي " هي موقف شخص  أو جماعة تعتقد أنه في الامكان تغيير سير الأحداث بالارادة

وحدها " أو هي  " نظرية تؤكد تفوق الارادة على العقل " أو " هي نظرية تؤكد أن ارادة الانسان يمكن أن تتغلب على الضغوط  الاجتماعية والنفسية " ( www.fr dictionnaire/ français/ volontarisme/ 82474 ) .

كل هذه   التعريفات تخدم تفكير فرحات عباس سنة 1930 الذي اختار  " الواقعية " سبيلا الى الاصلاح اذ أن منتقديه من "الارادويين " كتبوا عن هذه الفترة بعد أن حصلت تغييرات عالمية كان من نتائجها  اعادة النظر في كل شيئ تقريبا ومنها " الحركات الاستقلالية " في كل بلدان المغرب.فكيف يطلب من فرحات عباس أو الوزاني أو بورقيبة بل ممن اقتدوا في فرنسا نفسها  بالحزب الراديكالي أن " يتكهنوا " بما  سيحدث في ما بعد من زوال قوى  وصعود قوى ؟

ان الراديكالية  ليست نظرية سلفية أو نظرية تقول " بفلسفة الدور" عندما يتعلق الأمر بمسار الأمم  وهل رأينا في الولايات المتحدة على سبيل المثال من كان يطالب سنة 1930  بحقوق لزنوج الولايات وكانوا يعانون من وضع أبأس من وضع سكان أفريقيا الشمالية ؟

ان " الارادوية " وحدها هي التي تقول بامكان ذلك غاضة النظر عن كل المصالح التي تتحكم في سلوك الناس وما حدث في بلاد المغرب من تطور يؤكد ما  أقول :

ففي الجزائر التي نتحدث عنها في هذا الفصل لم يحدث أن كان القوم على اطلاع على ما كتب حمدان خوجة في ما يتعلق بموقفه من " الارادوية  " وتبنيه فكرة  " الأصلاح " التدريجي الا بعد الاستقلال بنصف قرن وهذا ما كتبه  أبو القاسم سعد الله سنة 2005 في مقال ربط  فيه بين فرحات عباس وحمدان خوجة في تقديم ل" الشاب الجزائري " عنونه ب " الواقعية واللاواقعية في السياسة الجزائرية بين الحربين "

أما عبد العزيز بوتفليقة وهو اليوم رئيس الدولة   الجزائرية  فقد كتب في تصدير كتاب " المرآة " سنة 2006 ما أثبته على طوله لأهميته البالغة نظرا الى  موقع الرجل الحاسم في تطور هذا البلد :

" لا ينبغي  قراءة كتاب " المرآة " بصفته بيانا مناهضا للاستعمار وكفى  فبالنسبة لهذا  الكولوغلي المنتمي الى الأقلية الحاكمة التركية (...)اذا كان الاحتلال الفرنسي أمرا سلبيا على الاطلاق فان الاطاحة بالداي حسين بفعل الاجتياح العسكري يمكن أن تكون

لها آثار ايجابية من حيث أنها تفتح المجال أمام امكانية تحديث المجتمع الجزائري وانبعاثه وفق نمط الدولة الوطنية . ان مسعى حمدان خوجة وفكره السياسي في مجملهما (...) كانا  يرومان تحقيق هدف ذي أبعاد ثلاثة :

  • اقامة رسم الجزائر على  أساس اقامة دولة وطنية
  • مباشرة حوار مع فرنسا يضع حدا لمواصلة حرب الابادة
  • مباشرة  تحديث المجتمع الجزائري .

ان حمدان خوجة بعيدا عن بعض ما نشهد حاليا من تخوفات وتشنجات لا يخشى التحديث هذا خاصة على المستوى الفكري والسياسي بل انه ينشده (...).

رجاؤنا  هو أن يملأ في 2005 صوت حمدان خوجة الأسماع في ضفتي البحر الأبيض المتوسط " ( من تقديم عبد العزيز بوتفليقة كتاب " المرآة " ، الجزائر ، منشورات  Anep  ، طبعة 2006 )

 

مأخذي الوحيد على  عبد العزيز بوتفليقة في هذا المقال هو  حديثه عن مطالبة حمدان خوجة فرنسا ب " اقامة رسم الجزائر على أساس اقامة دولة وطنية " (Etat-nation  ) وهذا يجافي الحقيقة التاريخية والفكرية ولا تفسير عندي  لهذا المذهب في التفكير الا  بأن بوتفليقة يتحدث انطلاقا من موقعه السياسي في الدولة الجزائرية الحديثة مما "يسمح " له  بالحديث عن " دولة قومية " في سنة 1833.

ذلك أن هذا المفهوم وليد القرن التاسع عشر كان موضع جدل بين الفرنسيين والألمان في كتابات ذلك العصر وهو يقوم على اختلاف قوميتين  متصارعين في بلدين أحدهما اختار مركزية الدولة  مجالا لنشاطه لأنه تمكن من رسم حدودها وهو فرنسا  والثاني كان لغياب هذه المركزية يركز على الثقافة وسيلة لتحقيق غاياته في انشاء وطن مركزي يجمع طاقات المواطنين وهو ما لم يتحقق الا زمن بيسمارك .أما في ما يتصل  ببلدان المغرب فقد كانت مقسمة على النحو التالي :

بلدان هما تونس والمغرب الأقصى وجد فيهما شعب واحد يضاف اليه الشعب الجزائري  تحكمه سلطة مركزية ممثلة في الباي والمخزن بغض النظر عن مدى  تمثيلهما ل"المواطنين "  اذ نحن نتحدث  هنا من وجهة نظر قانونية .   وهذان  النظامان ليس في امكان أي منهما أن يتحدث لرعاياه  باسم دولة - قومية  اذ أن كل هذه الشعوب لا تجمعها سلطة مركزية واحدة  اضافة الى الحدود التي تفصل بينها واختلاف أعلامها وسكاتها المتداولة و..و.. فعليها   ان أرادت أن تكون دولة قومية فعليا أن تتوحد  فتكرر تجربة الموحدين وأن تفرض واقعا جديدا يشبه الحالة الألمانية التي سبقت فيها الأمة اقامة الدولة وهذا هو ما سعى اليه عبد الكريم

الخطابي الذي تحدث خصومه من سياسيي بلاد المغرب عن "  خرفه " وهو يدعو  الى ثورة عامة تشمل كل بلاد المغرب  اذ ليس في امكان أي بلد مفرد من بلدان المغرب أن يهزم امبراطورية  مثل فرنسا وهذا ما تفطنته كل البلدان التي استعمرت بلدان أفريقيا سواد أكانت فرنسا أو اسبانيا أو ايطاليا واجتهدت في تقسيمها اقتصاديا وسياسيا رغم وحدتها  العرقية والثقافية والدينية ذلك  أن معنى الدولة القومية هو التالي كما عرفته  اليونسكو  " L'Etat-nation est un domaine dans

lequel les frontières culturelles se confondent aux frontières politiques . L’idéal de L’Etat-nation est que l’Etat incorpore les personnes d’un  mème socle ethnique et culturel.Ainsi l’Etat-nation “existerait si presque  tous  membres e  d’une d’une seule nation étaient organisés en un seul Etat , sans autres communautés nationales  présentes “ (www.toupie.org/dictionnaire/ Etat-nation .htm

 

بلد مغربي ثالث هو الجزائر غابت فيه السلطة المركزية بعد أن ألغتها فرنسا اثر الغزو وأحلت عوضا عنها مقيميها العامين  مما يفسر كثرة " الثورات " في هذا البلد  الذي تحولت فيه  المقاومة  الى مسؤولية " قبلية " تختلف من جهة الى أخرى  ليس في امكانها   أن تعتمد غير الاسلام  الموحد وسلية للنضال مما ينجر عن ذلك من مظاهر النضال الثقافي في مختلف المجالات مثل العادات و " التقاليد " فالقول اذن في تونس ان وضعها الاجتماعي قبل الحركة الدستورية كان وضع  " تراب  أفراد " ( une poussière d'individus ) لا يصح لا في تونس ولا في المغرب الأقصى لأنه  لا ينطبق الا  على الجزائر التي تعرضت لاحتلال كانت الغاية منه البقاء الأزلي والذي كانت الحرب العالمية الثانية قاصمة ظهره .

اقرؤوا ما كتب  فرحات عباس في قوله بنظرية " التقدم " التي تختلف نشأة وغاية عن النظرية " السلفية " التي ترى في الماضي الاسلامي القدوة الأولى والأخيرة :

"  هذا الكتاب (...) عنوان  رمزي يترجم ايماننا بالأزمنة الجديدة التي جاءت تحمل  معها لهذا البلد طلائع روح جديدة " ( االشاب الجزائري ، ص 38 )

وكتب في فكرة التقدم التي أخذ بها كل من كان يقول بها  سواء في الجزائر أو فرنسا  من المعبرين عن روح الثقافة الفرنسية " الحقيقية"  :

"  الثقافة الفرنسية أعطتني حسا رفيعا في الحياة  وجعلتني أقدر قيم الديمقراطية والانسانية الحقيقية وقد بقيت  وفيا لها فبفضل هذه  الثقافة حاربت اقطاعيات  المال التي استولت على السلطة في الجزائر ووقفت موقف العداء من شعبنا ومن الاسلام " ( الشاب الجزائري ، ص 35 ) .

ما لم يفهمه الكثيرون من مثقفي بلاد المغرب نتيجة  توجههم الفكري السياسي وعدم تبني فكرة " التقدم " أن فكرة التقدم مجمع عليها في مختلف بلاد الأرض رغم اختلاف الألمان والفرنسيين في تحديد نشأتها ذلك  أن عمودها الفقري يقوم على ضرورة تعايش الأعراق بما يؤدي الى تجريم " صراع الحضارات " ولقد كان المثقفون الجزائريون قبل زلزال الحرب العالمية الثانية يقولون بها :

 

" كان الكثير  من أتباعه ( أي أتباع  فرحات عباس  ) يؤمنون بتعايش  الأعراق عن طريق اعادة  بناء مؤسسات نشطة ذات نظام اجتماعي وسياسي جديد " (الشاب الجزائري ، ص 22) هذا الأمل  هو الذي قاد فرحات عباس الى نفي وجود أمة جزائرية تختلف عن الأمة الفرنسية  أو الألمانية أو ما شابههما  لضرورة توفر عنصر السيادة أي الدولة قانونيا وهو ما  لم يتوفر في حالة الجزائر الا سنة 1962...وبعد حرب ضروس قادتها جبهة التحرير الجزائرية التي كان فرحات عباس متحفظا  ازاءها  . ان ما نقول هو المفتاح الوحيد لفهم تفكير فرحات عباس الذي لم يقر بوجود " أمة جزائرية " قبل انفصالها عن فرنسا أي عندما كتب ما سيستهجنه عدد من المسيسين الجزائريين الذين لم يعيشوا فترة الحرب العالمية الثانية  التي  " فجرت كل التناقضات القديمة وتسببت في يقظة آسيا وأفريقيا وزعزعت في الوقت ذاته موازين القوى وأرهصت بتوازن جديد في العالم فراحت كل الشعوب المستعمرة تطالب بحريتها ، الكل يريد رفع نير الاستعمار ( الشاب الجزائري ، ص22) وهذا هو نص ما كتب فرحات عباس في هذه المسألة ونشره في مجلة " الوفاق " L'entente  بتاريخ 27 فيفري 1936 ضمن مقال " بعنوان فرنسا وأنا" :

 

" لو أنني اكتشفت الأمة الجزائرية لكنت مجاهدا وطنيا ولما كنت أخجل من وطنيتي وكأنها جريمة. ان الرجال الذين  ماتوا في سبيل

المثل الأعلى الوطني يحبهم الناس ويمجدونهم كل يوم وليست حياتي أفضل منهم ومع ذلك فلن أموت من أجل الوطن الجزائري لأن هذا الوطن الجزائري لا وجود له ولم أكتشف هذا الوطن . لقد بحثت في التاريخ وسألت الأحياء والأموات وزرت المقابر فلم  يحدثني أحد عن هذا الوطن " ( ص 1 من مقالة ل رابح بلعيد بعنوان :   " فرحات عباس  حصان طروادة الثورة " وأنا اشير الى هذه المقالة لأنها مثال على  "تخوين"  فرحات عباس ومن  ثم  تطرح  سؤال فرحات عباس  لمنتقديه   الأكثر  شراسة " ايديولوجية " والذين  لم يعيشوا ما عاش هو :

"منذ استقلال الجزائر كان هناك شبان جزائريون لم يعرفوا  وطأة ليل الاستعمار ولا الاستعباد يسمحون لأنفسهم بالسخرية منا ويوبخوننا ومراقبة كتاباتنا .انهم يجدون أن ما قمنا به غير كاف . فهل  كانوا سيفعلون أفضل  مما فعلنا لو كانوا في مكاننا " ؟  (الشاب الجزائري ، ص 34)

 

الجزء الثاني  : مفكرو  بلدان شمال أفريقيا بين " الارادوية " و " التخاذلية "

الفصل الثاني : فكرة " التقدم " عند الحبيب بورقيبة .

 

لا  أحد ممن قرأت لهم شيئا يتعلق بالتفكير السياسي في بلاد المغرب وصف بورقيبة ب المفكر " السلفي "  اذ لا وجود عند بورقيبة لأي حنين سواء الى "السلف الصالح "الذي مثله النبي محمد ومن عاصروه أو تأثروا خطاه عند قيام الدولة العربية - الاسلامية .  والنبي محمد لم يكن نبيا فحسب ولكنه كان عربي العرق  واللغة  أيضا ارتبط وجوده ب "الظاهرة القرآنية "  ومن هنا ستطرح مسألة مؤثرة في التفكير السياسي وهي الى أي حد يمكن القول ان من يكون مسلما يجب عليه أن يكون عربي اللغة ؟

هذه المسألة لا يمكن أن يطرحها من ينتمي الى الفضاء العربي الشرقي خاصة لأنها بديهية بالنسبة اليه ولكنها ليست كذلك بالنسبة  الى أغلبية سكان شمال أفريقيا المسلمين الذين يميلون  الى الفصل بين الانتماء الى الاسلام والانتماء الى العروبة لأنهم أمازيغ أي بربر خاصة في هذا الزمن الذي استفاقت فيه كل  النزعات " الهوياتية "  نتيجة التطورات العالمية  ومن  يتابع مثلي  يوميا  ما  يحدث  في المغرب الأقصى وفي الجزائر مما يتصل  بهذه المسألة  التي لا يوليها التونسيون أهمية لأنهم" تعربوا " منذ قرون و لأنهم لا يشكلون الا جزءا صغيرا من بلاد المغرب فسيقتنع بوجاهة طرح هذه المسألة .

فمن يطرح هذه المسألة هو في الحقيقة يطرح مسألة موقف  أبي الحسان الوزاني وفرحات عباس والحبيب بورقيبة من " السلفية " ومن ثم موقف   علال الفاسي من كل من ذكرنا وهو موقف التنديد وان لم يعلن ذلك صراحة في ما كتب

ان غرضي من كتابة هذه المقالات هو محاولة تصنيف كتابات مفكري بلاد المغرب انطلاقا مما أرى أنه يجمعهم  وما يميز بينهم محاولة مني لتجاوز المساجلات التي تهتم بالتفاصيل ولا ترتقي الى مستوى أعلى  ذلك أن التصنيف السليم  اذا اقترن بالمنهج الموفق يمكن أن يعطي  ثمارا كثيرة ولو في زمن غير زمننا.

 

ان تطور التفكير السياسي في تونس  بقدر ما  يختلف عن  تطور التفكير  السياسي في المغرب الأقصى  فهو  قريب الى  حد كبير  من تطور التفكير السياسي في مستعمرة الجزائر قبل استقلالها سنة 1962 فمؤسس  الحزب  الدستوري أقصد الثعالبي  الآخذ الى حد معين بالنظرة "السلفية"  جزائري الأصل  تماما  مثل أحمد  توفيق   المدني ( 1898 - 1983  ) وخصم الثعالبي  حسن قلاتي (1880- 1966) الآخذ بفكرة " التقدم " والذي لعب دورا أساسيا في  معارضة  تفكير  الثعالبي  في تونس جزائري الأصل هو أيضا   مما  يدل  على صحة  ما ذهبنا اليه  من وجوب التمييز  بين المفكرين السياسيين  لا  باعتماد  مفهوم الاصلاح الفضفاض لكن   اعتمادا  على مفهوم  " التقدم "  والموقف منه . ولقد تفطن كاتب مصري  مثقف ثقافة سياسية  عالية  واضطر الى العيش في تونس فترة من الزمن  ما يمكن  أن  تقود اليه " فضفضة  المفاهيم "  من نتائج سلبية  في مجال التفكير السياسي  فكتب سنة 1975 في تقديمه  كتاب " تونس الشهيدة " عن تنازع  الرؤى السياسية  في بلدان شمال أفريقيا :

" كنت أود  لو أتناول  أفكار( الثعالي )  وخاصة القومية منها بالنقد لكني لم أعثر الا  على ما جاء في " تونس الشهيدة " وقد بدا لي أن  مفاهيم  الأمة والقومية ليست واضحة  عنده كل الوضوح . ولا أعني من ذلك أنها واضحة عند غيره من كتاب تلك المرحلة فقد اختلطت عندهم المفاهيم  وهو كثيرا ما يعني بكلمة الأمة : الأمة الأمة الاسلامية  أو الأمة العربية أو الأمة التونسية . وقد يكون التحديد  غير وارد كما هو الأمر عند  شكيب أرسلان أو محمد عبده أو رشيد رضا لكني ألمس عند هؤلاء جميعا أن تعبير الأمة يعني الأمة الاسلامية وأنهم عندما يستعملون هذه الكلمة في هذا المجال فانما يريدون يريدون منها كلمة شعب " ( تقديم أنور الجندي كتاب "تونس الشهيدة " ص 22 )

 

 

تفكير الحبيب بورقيبة السياسي  ينحصر في المجال التونسي لا يتعداه الى المجال العربي أو الاسلامي وهو حتى عندما يستعمل كلمة  الأمة فهو يقصد بها " الأمة التونسية " ولقد  عاصرنا فترة  الخصومات حول   تسمية بطاقة التعريف  ومختلف مؤسسات البلاد :  هل يجب أن  تحمل  صفة الوطنية أو القومية ؟ ولقد كان  بورقيبة طيلة ال 100 سنة التي عاشها تونسيا صرفا

آخذا فكرة التقدم مثلما يفهم الراديكاليون الفرنسيون منها بل " الانتهازيون" منهم وهو في  هذا  المنحى الفكري السياسي لم  يضف  شيئا  على من  سبقه بثلث قرن  أقصد  على الخصوص  حسن القلاتي  وعبد الجليل الزاوس  ( 1873  - 1947) و علي باش حامبة (   1876 - 1918   ) وجميعهم من خريجي

الLycée Carnot   حسب  تسميته الأخيرة  وكلهم  ذووا  تعليم عال  لا علاقة له  بتعليم  جامع  الزيتونة على الرغم من أن عددا من طلبته سيشذون عن التفكير السائد فيه   مثل الطاهر الحداد ( 1999  - 1935  )  و محمد علي   الحامي (1890- 1928    ) و الشيوعي التونسي  علي جراد ( 1911 - 1976 )  

فاذا أضفنا الى ما سبق  أن عائلة الحبيب بورقيبة ممثلة في  اخوته الذكور  كانت  على  الأقل  في عدد من  أفرادها  تأخذ  بالعلمانية مما يقلل من ضغط الشعور الديني وخاصة  المتضخم منه فهذا  أخوه  امحمد (1881 – 1930 ) كان ذا ميول أدبية ومسرحية يجيد العربية والفرنسية وهذا أخوه  محمد المساعد الطبي في الكاف كان ذا ميول مسرحية تماما مثل أخيه امحمد  .

أما أخوه محمود  (1999- 1956 ) الذي أعانه ماديا لأنه  كان أعزب فقد كان  اضافة الى أنه مساعد طبي راديكالي الميل السياسي وهو الذي أثر  في  أخيه الحبيب لأنه أقام في الكاف مدة تقارب  السنتين  وتأثر فيهما بهذا " المناخ التمريضي المسرحي " قبل سفره الى فرنسا سنة 1924 .

واذا كان الحبيب بورقيبة يهمل الحديث عن هذه الفترة فذلك  نتيجة  تضخم نفسي يمنعه  من  رد  عدد  من المحاسن الى غيره وهذه صفة تميز كثيربن ممن يكتبون أو يكتبون غيرهم سيرتهم الذاتية  وأنا  لست ميالا الى البحث فيها لأنني لست مؤهلا علميا  لتناولها .

 

لقد  حاول  المفكر  أنور الجندي في ما سبق أن  أوردنا له من نقد  هذا  " العجز البين  " عند المفكرين الذين كتبوا  حول "  الحضارة العربية الاسلامية " عن   تحديد واضح ومتفق عليه لمفهوم " الأمة " وأنا أنتقده بدوري في عدم تحديد مفهوم " الشعب " عنده  ذلك أننا  نرى في تونس على سبيل المثال أن كل الناس يتحدثون عن " الشعب التونسي و " الشعب العربي " في خلط  عجيب  بين مكونات "اتنية " مختلفة.هذا الخلط سببه عدم وضوح مفهوم " الشعب "  لا عند  عامة الناس فقط بل عند "المنظرين "وهذا الواقع يؤدي الى تقسيم التونسيين تقسيما نهائيا ذلك أن الأمر لا يتعلق ببورقيبة / السبسي والغنوشي ولكن يتعلق كذلك بتيار  سابق عليهما  بزمن بعيد أقصد زمن خصومة الثعالبي وأتباعه  وجماعة القلاتي وباش حامبة وعبد الجليل  الزاوش حول مفهوم  " الأمة " فالثعالبي  ينطلق من مفهوم  "الامة الاسلامية " أما هم فيقصرون حديثهم على " التونسي "  . هذا هو ما يميز  بورقيبة / السبسي عن الغنوشي في العمق لا في الشكليات ومنها مظاهر  التدين . بورقيبة رشدي التفكير أما الغنوشي فهو غزالي التفكير فكأنهما يكرران في القرن العشرين خصومة ابن رشد الغزالي قبل قرون بسبب عجز  أكاد أقول انه  وراثي عن الجديد بما يلائم مفهوم " التقدم " . وهذا الاختلاف بين الرجلين هو اختلاف سبق أن شق الفرنسيين الذين  نستورد منهم  كل شيء لعجزنا عن المساهمة الفكرية – السياسية  في بناء فكر سياسي ملائم  لبيئتنا المغربية عموما ومنه فكرة  " الشعب " التي خاض فيها " فلاسفة الأنوار " في القرن الثامن عشر  لأنها كانت من نتائج ثورة 1789 وحملت  مفاهيم ان تعددت فقد كانت أساسا لتطور مفهوم " الشعب " :

La souveraineté populaire (…) a fait irruption dans le monde lors de la révolution française de 1789  qui a lancé l’idée selon laquelle c’est le peuple  et non pas le monarque héréditaire qui  doit ètre(…)le détenteur du pouvoir  souverain »(America.gov) 

أما  المؤرخ الفرنسي  Gerard Fritzفقد كتب كتابا قيما كثير الانتشار حول فكرة  "الشعب " وقد جاء في تقديمه ما يلي :

 

« L’Idée de peuple se  développe parallèlement au mouvement révolutionnaire qui monte au  18 s. et impose son rythme au 19ès. Elle est indissociable des idées  de nation  , de république, de  démocratie ; elle cotoie le prolétariat et la race ; elle se croise avec la conception de la société et de l’homme. C,est à  partir d’elle qu’on s’oppose et que l’on se rassemble  , à travers elle qu’on approche  la réalité politique et sociale .Pour les

Oppositions qu’elle détermine et les rapports qu’elle implique , l’idée se trouve au centre des débats les plus  importants pendant plus de deux siècles : autour d’elle on posa le problème  du pouvoir , le problème  social  ,  le problème des nationalités . Tout est ici interdépendant (Gérard Fritz  , L, Idée de peuple en  France du  17è au 19è siècle , 1988 .  

 

انني لن أعرب هذه المقتطفات لسببين اثنين أولهما أن كل تعريب سيذهب بجزء من معاني هذه الفقرات وثانيهما أن هذا  الموضوع  لا يمكن أن يكون ذا فائدة الا بالنسبة الى  من يتقنون اللغتين الفرنسية والعربية  اتقانا تاما ويتوخون الدقة في التعامل مع المصطلحات من دون فضفضة  أو مجاز .

 

كيف أختم هذا الفصل الأخير المتعلق بالحبيب بورقيبة ؟

 

ان تفكير الحبيب بورقيبة تماما مثل تفكير الوزاني وفرحات عباس يندرج ضمن  تفكير هذه المجموعة من المفكرين السياسيين في بلاد المغرب التي تقول بفكرة " التقدم "على غرار مفكري " الأنوار " في فرنسا في القرن الثامن عشر ولكن ما يميز بين هؤلاء ومفكري فرنسا هو  أن مفكري  فرنسا كانوا تعبيرا عن حركة فكرية سياسية اقتصادية شاملة تواصلت بمدها وجزرها ولكنها انتهت في النهاية الى  تثبيت الصورة التى  عليها فرنسا اليوم بمعنى أنهم كانوا " خلاقين " اذ غيروا المجتمع من حالة  قديمة الى حالة جديدة  أما عندنا في بلاد المغرب فقد اكتفى من لمع  فيها من " المفكرين السياسيين " بالنقل الحديث أي ما أسميه بال "  copier-coller  " لأسباب عديدة متشعبة لا يمكن لهذا البحث أن يتعرض لها  . ويكفي في هذا السياق أن نشير الى مفكرين سياسيين مراكشيين هما الجابري والعروي : هذان المفكران مطلعان اطلاعا واسعا  على تطور فكرة " التقدم " في فرنسا ولكنهما عاشا في ظل نظام  مغربي  اسمه " المخزن " سبق لمفكري فرنسا أن قوضوا  شبيهه في القرن  ..الثامن عشر  فلم لا يتشبهان ب " مفكري الأنوار " في كل شيء ومنه الجانب الفكري السياسي ؟ انني  لو كنت ميالا الى تناول علاقة المفكرين السياسيين بالنظم السياسية  لقلت ان الأمر متعلق أساسا بوضع هؤلاء المفكرين  الطبقي  اذ أن ما يمكن أن يلاحظه كل " عاقل "  أن  "الاستقلال " الذي حصلت عليه بلدان  بلاد المغرب اكتفى بتحقيق رغبات بورجوازيات صغيرة  مدعومة  بقطاع المزارعين الكبار عوضت في كل المناصب السياسية والادارية ..المناصب التي شغرت بسبب هجرة الفرنسيين وذلك لأمد قصير  . أما على المستوى الاقتصادي فقد بقيت الحالة على ما كانت عليها الا بتغيير طفيف  . وما أن تغير الوعي الاجتماعي السياسي بعض التغير حتى بدأ الشك في  ما أنجز وما لم ينجز من وعود التنمية . ومن في امكانه اليوم أن يحدثك سواء في تونس أو الجزائر أو المغرب الأقصى بتفاؤل في كل شيء تقريبا ؟

 

ان ما أقول هو الذي يفسر ميولي السياسية الخطابية ومن ثم شجبي  موقف ساسة بلاد المغرب  الذين اتهموا الخطابي ب " الخرف "  الفكري في حين أن الرجل كان ذا رؤية  سياسية بعيدة النظر كما  أنه يفسر تعاطفي الكامل مع الحركات الاجتماعية السياسية في المغرب الأقصى لأنني أرى فيها حركات  شبيهة بهذه الحركات التنويرية  الفرنسية التي أطاحت في النهاية بالنظام القديم  في فرنسا وعندما أرى ملك المغرب  محمد السادس وهو يتمسح بأعتاب الرئيس الفرنسي ماكرون  في الألفية الثالثة أتساءل كيف يمكن لهذا الملك أن يحكم بلدا وهو يجهل تاريخه الفكري السياسي الحقيقي وهو تاريخ مشرف بكل المقاييس ؟